الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.الآية الحادية عشرة: في هذه السورة مفارقة للآي التي شرطنا الفرق بينهما وبين ما خالفها بلفظ يسير من الآية التي بإزائها غير أنها مثلها في التكرار، والحاجة إلى ذكر الفائدة في إعادتها، وهي قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} البقرة: 134.للسائل سؤالان:أحدهما: أن يقول: ما فائدة الآية وهي خبر يعلمه المخاطب قبل أن يخبر به، ولا يستفيد بذكره ما لم يكن يعلمه قبل، لأنه يعلم أن الأمة التي وصاها يعقوب عليه السلام قد مضت وانقضت ولها ما كسبت من أجر، وعليها ما اكتسبت من إثم، وللمخاطبين أيضا أن يؤاخذوا بعملهم، لا بعمل غيرهم، ولا يسألوا عما عملهم من تقدمهم. وإذ كان معنى الآية هكذا فهو معلوم لكل أحد مميز لا يحتاج إلى استفادته بإخبار مخبر؟والسؤال الثاني هو عن تكرار هذه الآية، لأنها ذكرت في صدر العشر المفتحة بقوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم} البقرة: 131، ثم أعيدت في خاتمة هذه العشر التي تنقطع إلى قوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} البقرة: 142.فأما الجواب عن السؤال الأول وذكر فائدة الآية مع وضوح معناها لكل ذي معرفة فمن وجهين.أحدهما: أن يكون مثل هذا الكلام يقال، وإن كان معلوما للإنسان على سبيل التنبيه على العصيان والبراءة إليه من فعله، وأنه هو المؤاخذ به من دون غيره، فيخرج الكلام على حد من المعدلة والنصفة لا مذهب لأحد عنه، ويكون هذا أدعى له إلى التأمل والتدبر وأقرب له من التبصر، كما قال تعالى لتنبيه: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} يونس: 41، فهذا أيضا معلوم إلا أنه على سبيل تخليتهم مع النظر لأنفسهم والتبريء مما يعود بسوء العاقبة عليهم، وعلى هذا الحد: {لكم دينكم ولي دين} الكافرون: 6، وهذا كثير، والقصد به مفيد كما بينا.والوجه الثاني من الجواب عن السؤال الأول أن يقال: إن هذه الآية تبكيت للمعاندين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن لزوم دينهم وشريعتهم مما أوجبه الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه على سلفهم وخلفهم، فاحتج عليهم بأن ما يدعونه لا يقدرون فيه على أن يقولوا: إنهم سمعوا ذلك منهم مشاهدة، لقوله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي} البقرة: 133 على معنى لم تكونوا شهداء، فإذا لم يثبت ذلك عندهم بمشاهدة تقطع العذر وتلزم الحجة، لأن تلك الأمة قد خلت وانقضت وأدت عن الله تعالى ما تحملت، وهو أن تكون التوراة قد خلت وانقضت وأدت عن الله تعالى ما تحملت، وهو أن تكون التوراة قد أخبرت بمجيء عيسى عليه السلام ومجيء النبي بعده، فلها الأجر في صحة أداءها وإظهارها ما أخذ الله به من الميثاق عليها في قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} آل عمران: 187.ومعنى {ولكم ما كسبتم} أي: إثم ما كسبتم لما نبذتم ذلك وراء ظهوركم، واشتريتم به ثمنا قليلا، فهذا معنى قوله: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتهم}.يبين ذلك أنهم إذا لم يعملوا ما يدعونه من طريق المشاهدة لم يبق إلا أن يعلموه بخبر مخبر، والمخبر الذي بينهم وبين تلك الأمة ممن يجوز عليه الكذب، فهذا خبر الله تعالى، وهو الخبر الذي يكذب نبيه على ذلك بقوله عند الانتهاء: {أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} البقرة: 140 أي: إذ لم تعلموا ذلك من طريق مشاهدة لانقضاء تلك الأمة، فالله تعالى أعلم منكم، قوله أصدق من قبلكم، وأنتم تعلمون فتكتمون ما عندكم من الشهادة حسدا وبغيا وطلبا للرئاسة، والله تعالى قد ثبت يبعثه محمد أنه رسوله، وأن هذا القرآن تنزيله بحج لائحة، وبراهين واضحة وهو عز من قائل يخبر خبرا حقا وقولا صدقا، أن الذي يدعون نقله عنهم ليس بحق فإذا بطل علمكم من طريق المشاهدة، ومن طريق الخبر، لم يثبت لكم من الحجة ما ثبت عليكم، ويكون معنى قوله: {ولا تسألون عنا كانوا يعملون} ولا تسألون عن عملهم، لأنه لا حجة لكم فيه، بل حجة عليكم، وقد قاموا به حق القيام، وثبت لهم صدق هذا المقام، فلا تسألون عن عملهم الذي هو صفتهم، ولا قال لكم: هل أدوا ذلك إليكم، ولوضوح الحجة به عليكم.ويجوز أن يكون في ضمن هذه الآية: وهم مسئولون عن عملكم تبكيتا لكم، وتثبيتا لحجتكم عليكم فيذكر أحد الضدين، ويكتفي به عن الضد الذي ينافيه، كما قال الله تعالى: {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} في معاناه: وتقيكم البرد، فكذلك قوله: {ولا تسألون عما كانوا يعملون} وهم مسئولون عن عملكم كقوله تعالى: {وإذ قال الله يا عسى ابن مريم أأنت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} المائدة: 116 فأخبر عز اسمه أنه يسأل عيسى عليه السلام عن عمل القوم بعده، وادعائهم عليه ما لم يقله تبكيتا للقوم وتثبيتا للحجة عليهم، فذلك معنى المحذوف من الآية بإزاء المثبت فيها اكتفاء بذكره عنه.وبقي الجواب عن فائدة تكرار الآية في أول هذه العشر، وفي آخرها، وهو أنها ذكرت في الأول بعد قوله تعالى: {أم كنتم شهذاء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} البقرة: 133- 134 ومعناه: أن إسرائيل عليه السلام قرر بنيه على عبادتهم التي ثبتت عندهم ووصاهم بها، فقال تعالى لهؤلاء: أتنفون ما ثبت من وصية يعقوب عليه السلام بنيه، وتقريره إياهم، وإقرارهم بها، والأمة قد انقضت، وحالها في عبادتها قد ثبتت ومن نفى ما ثبت من الدين فقد دخل في الكفر، فهذه الآية الأولى عقب ما ثبت من تقرير يعقوب عليه السلام لبنيه وإقرارهم له، وهذه الآية كرر بعينها بعد قوله تعالى: {أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله} البقرة: 140 أي أم أنتم تثبتون ما هو منتصف، ومن أثبت في الدين ما ليس منه من هذا البهتان العظيم فهو في الإثم كمن نفى عنه ما هو منه، ففي الأول نفي ما هو ثابت من إقرار بني إسرائيل، وفي الثاني إثبات ما هو منتف من كون إبراهيم وإسماعيل وإسحاق هودا أو نصارى، وكل واحد من هذين يوجب من البراءة ويستحق به غلط الوعيد، والتخويف بالعقاب، والتنبيه على الكبيرة التي تحبط الحسنات مثل ما يوجبه الآخر، فلذلك أعيد في الدعوى الثانية الباطلة ما قدم في الدعوى الأولى الكاذبة، وكما استحقت تلك براءة الذمة من قائلها وتنبيه على فساد قوله، كذلك استحقت هذه فصارت الثانية في مكانها، وحقها كما وقعت الأولى في محلها ومستحقها، فلم يكن ذلك تكرارا، بل كان وعيدا عقيب كبيرة، كما كان الأول وعيدا عقيب كبيرة أخرى غير الثانية والسلام..الآية الثانية عشرة: قوله تعالى في هذه السورة: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} البقرة: 136.وقال تعالى شبيها بهذه الآية في سورة آل عمران 48: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}.للسائل أن يسأل عن موضعين من هاتين الآيتين: أحدهما: قوله عز وجل: {أنزل إلينا} في الأولى {علينا} في الثانية، والموضع الثاني تكرار {أوتي} في الأولى، وحذفها في الثانية.فيقول: هل لاختيار إلى مع قوله: {أنزل} في سورة البقرة فائدة توجب اختصاصها؟ وهل لاختيار على مع {أنزل} في سورة آل عمران معنى يقتضيها؟ ولم كرر {أوتي} هنا ولم يكرر هناك؟والجواب المختصر المشار به إلى الفرق بين الموضعين في إلى وعلى: أن أول الآية التي اختصت بها على {قل آمنا بالله} وأول الآية التي اختصت بها إلى: {قولوا آمنا بالله} وشرح ذلك: أن على موضوعة لكون الشيء فوق الشيء، ومجيئه من علو فهي مختصة من الجهات الست بجهة واحدة وإلى للمنتهى، ويكون المنتهى من الجهات الست كلها.وإن توجه نحو الشيء شيء عن يمينه أو عن شماله، أو من قدامه، أو من ورائه، أو من فوقه، أو من تحته، فإنه إذا بلغة يقال فيه انتهى إليه، فلا تتخصص إلى بجهة واحدة، كما تتخصص على.فقوله تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} اختيرت فيها إلى لأنها مصدرة بخطاب المسلمين، فوجب أن يختار لها إلى، ثم جعل ما عطف عليه على لفظه الحق الإتباع، وإن صح فيه معنى الانتهاء، فالمؤمنون لم ينزل الوحي في الحقيقة عليهم من السماء، وإنما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ثم انتهى من عندهم إليهم، فلما كان {قولوا} خطابا لغير الأنبياء وكان لأممهم كان اختيار إلى ألى من اختيار على.ولما كانت في سورة آل عمران قد صدرت الآية بما هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا} كانت على أحق بهذا المكان، لأن الوحي أنزل عليه.وفي لفظة أنزل دلالة انفصال الشيء من فوق إلى أسفل وأن يقرن إليه ما يشاكله فيما يستحقه من المعنى أولى، وإن كان القرآن قد نطق بجميع ذلك في الأنبياء صلوات الله عليهم وفي غيرهم، كقوله عز وجل: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} [آل عمران: 3] وقال بعده: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} [أل عمران: 7] وقال في موضع آخر: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق} [المائدة: 48].فالمنزل على الأنبياء منته إليهم، فلذلك صحت إلى إلا أن على أصلها: إذا قصد الإفصاح بالمعنى أن يستعمل فيمن نزل الوحي عليه، وشركة الأمة في اللفظة له مجاز لا حقيقة، وإلى في ذكر الإنزال المتعلق بأمم الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أشبه بحقيقة معناها من على، فلذلك خصتا في الموضعين باللفظين المختلفين، وجعل ما بعدهما يجري مجراهما كما يجب في حكم الإتباع.وأما الموضع الثاني الذي أعيد فيه لفظة {أوتي} من سورة البقرة ولم تعد فيما بإزائها من سورة آل عمران، فالجواب عنه أن يقال: إنما اختصر هناك، لأن العشر التي فيها مصدرة بقوله: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} [آل عمران: 81] فقدم ذكر إيتاء الكتاب، واكتفى بع عن التكرير في الموضع الذي كرر فيه من سورة البقرة على سبيل التأكيد.وبيان ذلك: أن هذه العشر مبنية على ذكر عهد الله إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وما أخذ عليهم من المواثيق في تبيين ما أنزله إليهم للناس، فقوله: {وما أوتي النبيون من ربهم} هو قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة} في المعنى، فلما تقدم هذا الذكر وجاء {وما أوتي موسى وعيسى} اكتفى عن إعادة {وما أوتي النبيون} بالذكر المتقدم، ولما لم يتقدم في سورة البقرة ذكر إيتاء النبيين ما أوتوا من الكتب في هذه العشر لم يكن فيه ما يغني عن التأكيد بإعادة اللفظ. هذا الفرق بين الموضعين. والله أعلم..الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبله ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجهكم شطره} [البقرة: 144].وقال بعده في هذه العشر: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعلمون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 149- 150].للسائل أن يسأل عن الفائدة في تكرار هذه الآي في هذه العشر مع أن في واحدة كفاية؟فالجواب عنه أن يقال: إن قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام}.هو الأمر الأول بالتوجه محو القبلة التي هي الكعبة، والخطاب للنبي وما بعده هو خطاب له ولأمته، وهو قوله: و{حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}.وأما الآية الثانية وهي قوله: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} فالخروج خروجان، أحدهما: خروج المصلي من مكان إلى مكان يرى فيه الكعبة وهو المسجد الحرام، فكأنه قال: ومن أي باب من أبواب المسجد خرجت فتوخ استقبال الكعبة بالصلاة، والخروج الثاني خروج من البلد الذي فيه المسجد الحرام وهو الحرم، فكأنه قال: وإن خرجت من البلد من أي باب خرجت فاجعل الكعبة قبلة لك تتوجه نحوها بصلاتك.فعلى هذا يكون لكل آية فائدة، فالأولى ليس فيها خروج، والثانية فيها خروج من أقرب الأماكن إلى الكعبة، والثالثة خروج مما عدا ذلك عام في البلاد. وقد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا يثبت مثلها للبعد، فوقعت مظاهر بالأمر بتولي القبلة في القرب والبعد.ولفظة {خرجت} لفظة الماضي، وهي في موضع المستقبل لأن المعنى الشرط والجزاء، و{حيث} وحدها وإن تضمنت معنى الشرط فإنه لا يجوز بعدها الفعل المستقبل، بل تقول: من حيث تخرج، فترفع الفعل، وإن أردت: من أي موضع تخرج، فأي موضع يجزم الفعل، و{حيث} لا تجزمه إلا إذا قارنتها ما، فتقول: حيثما تنزل أنزل، فإن قلت: حيث تنزل أنزل، بطل الجزم ووجب الرفع.فقوله تعالى: {وحيث ما كنتم} و{كنتم} في هذا المكان في موضع الفعل مجزوم، كأنه قال: وحيث ما تكونوا فولوا وجوهكم شطره، وليس كذلك {ومن حيث خرجت} إلا أنه لا يخرج عن تضمن معنى الشرط، يبين ذلك دخول الفاء في الجواب، ولولا هذا المعنى ما احتيج إليها، فلهذا قلنا: إن الماضي بعدها بمنزلة المستقبل، كما يكون في قولك: إن خرجت خرجت، إلا أن الماضي لا يجزم كما لا يجزم الفعل في صلة الذي وإن دخله معنى الشرط.إذ قلت: الذي يزورني فله درهم، فأوجبت الدرهم بالزيادة، وحيث في هذا الموضع على غير ما هي عليه في قولك: قعدت اليوم حيث قعدت أمس، لأن تلك شائعة كشياع الأسماء التي تقع بمعنى الشرط ويجازي بها..الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أول كان آبائهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} البقرة 180.وفي هذه الآية موضعان يشابهان موضعين من آيتين أخريين:الأول: قوله: {ما ألفينا عليه آباءنا} وبإزائه قوله في سورة لقمان الآية: 21: {وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا}.والموضع الثاني يشبه قوله في سورة المائدة الآية: 104: {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون}.للسائل أن يسأل فيقول: هل لتخصيص الموضع الذي في سورة البقرة بقوله: {ألفينا} دون قوله: {وجدنا} دون قوله: {وجدنا} فائدة تخصه؟ وهل لتخصيص الموضع الثاني بقوله: {لا يعقلون شيئا} دون قوله: {لا يعلمون شيئا} فائدة؟ وهل لتخصيص {لا يعلمون} في موضعه دون قوله: {لا يعقلون} في موضعه فائدة؟والجواب عن الموضع الأول وهو قوله: {ألفينا} أن {ألفينا} يقصد بها بعض الوجوه التي ستعمل عليها: {وجدنا} لأنه يقال: وجدت الشيء، فلا يحتاج إلى مفعول ثان إذا وجدته عن عدم، ولوجدان الضالة الضالة تقول: وجدت الضالة وتقول: وجدت زيدا عاقلا، فيكون الوجود متعلقا بالخبر الذي هو المفعول الثاني، فلابد له في هذا الوجه منه، ولا يكتفي بالمفعول الأول.وأما قولهم: ألفيت، فإنها مخصوصة بهذا الوجه من وجوه وجدت، لا يقال: ألفيت درهما بمعنى: وجدت درهما، ولا ألفيت الضالة، فكان في الموضع الأول استعمال اللفظ الأخص أولى، وتأخير اللفظ المشترك إلى المكان الثاني أولى.وأما المسألة الثانية من هذه الآية في قوله: {أولو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} فالجواب عنها أن يقال: إن لقوله: {يعلمون} رتبة ليست لقوله: {يعقلون} وإذا وقفت على ما بينها سهلت عليك معرفة ما أوجب فقول القائل: يعلم، معناه: يدرك الشيء على ما هو به مع سكون إليه، وقوله: يعقل، معناه يحصره بإدراك له عما لا يدركه، ولذلك جاز أن تقول: يعلم الله كذا، ولا يجوز أن تقول يعقل الله كذا، لأن العقل: الشد، والعاقل: الذي يحبس نفسه عما تدعو إليه الشهوات، ولا شهوة الله تعالى فيحبس عنها، فلذلك لا يقال الله عاقل، ويقال: عقل فلان الشيء وهو يعقله بمعنى حصره بإدراكه له عما لا يدركه، وشده بتميزه له عن غيره مما لا يدركه، وهذا لا يصح في حق الله تعالى.فإذا كانت رتبة {يعلمون} زائدة على رتبة {يعقلون} فأخبر الله تعالى عن الكفار في سورة المائدة فقال: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أول كان آبائهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} المائدة: 104 فبين أنهم ادعوا رتبة العلم بصحة ما كان آباءهم عليه، لأنهم قالوا: {حسبنا ما وجنا عليه آباءنا} ولفظة حسبنا تستعمل فيما يكفي في بابه ويغني عن غيره، فالمدرك للشيء إذا أدركه على ما هو به وسكنت نفسه إليه فذاك حسبه، فاستعمل لفظة يعملون ونفي عنهم النهاية لأنهم اعدوها بقولهم: حسبنا، فكأنهم قالوا: معنا علم سكنت نفوسنا إليه مما وجدنا عليه آباءنا من الدين، فنفى ما ادعوه بعينه وهو العلم.والموضع الأول في سورة البقرة لم يحك عنهم فيه أنهم ادعوا تناهيهم في معرفة ما اتبعوا عليه آباءهم، بل كان قوله تعالى: {وإذ قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} البقرة: 170، ولم يدعوا أن ما ألفوا عليه آباءهم كان كافيهم وحسبهم، فاكتفى بنفي أدنى منازل العلم لتكون كل دعوى مقابلة بما هو بإزائها مما يبطلها والسلام.
|